قصة شعبية إيطالية، كتابة إيتالو كالفينو
ترجمة: نجلاء والي
هذه القصة تضع يدنا على مصدر من مصادر إيتالو كالفينو، الإيطالي الأكثر عذوبة، وقد أمضى سنوات في تدوين الحكايات الشعبية من مختلف أقاليم إيطاليا وصياغتها بلغته. العمل الكبير ترجمته نجلاء والي وصدر في أربعة مجلدات عن دار «شرقيات» التي افتقدناها.
يحكى أن سيدة حاملاً، اشتهت ذات مرة أكل البقدونس. بالقرب منها كانت تسكن ساحرة؛ ساحرة مشهورة تملك حقل بقدونس. كان باب الحديقة مفتوحاً دائماً؛ فالبقدونس كثير، وكان من يريد يأخذ منه بدون مشاكل. دخلت السيدة الحقل وبدأت تأكل البقدونس ورقة ورقة وانتهت بأن أكلت نصف الحقل. وعندما ذهبت الساحرة ووجدت نصف حقل البقدونس وقد انتهى ولم يعد هناك ولا حتى خيط أخضر.
قالت:
ـ آه يريدون أن يأكلوا كل الحقل، غداً سوف أحرسه وأرى من يأتى..
عادت السيدة فى اليوم التالى وأكلت نصف الحقل الباقى من البقدونس وكانت تأكل النبتة الأخيرة عندما خرجت إليها الساحرة فجأة وقالت:
ـ آه أنت من أكل كل البقدونس المزروع فى حقلى؟
فزعت السيدة وقالت:
ـ من فضلك اتركينى أذهب فأنا أنتظر طفلاً.
ردت الساحرة:
ـ نعم سوف أتركك على شرط أن اقتسم معك الذى تلدين، طفلا كان أم طفلة، عندما يتم السابعة من عمره، يصبح نصفه لك والنصف الآخر لى.
قالت لها السيدة الخائفة:
ـ نعم، كى تتركها تذهب لحال سبيلها.
ولدت السيدة طفلاً ذكراً، وكبر وأكمل ستة أعوام وذات يوم أثناء مروره من طريق الساحرة، رأته وقالت له:
ـ اسمع قل لأمك بقي عام واحد.
عاد الطفل إلى البيت وقال:
ـ أمى، قالت لى عجوز انه قد بقى عام واحد.
ردت الأم:
ـ وإذا عادت وكررت ذلك قل لها أنت مجنونة.
كان الطفل سيكمل سبعة أعوام بعد ثلاثة أشهر عندما قابلته الساحرة وقالت له:
ـ قل لأمك بقيت ثلاثة أشهر.
رد الطفل:
ـ ياعزيزتى أنت مجنونة.
قالت العجوز:
ـ سنرى إن كنت مجنونة.
بعد مرور ثلاثة أشهر أخذت الساحرة الطفل من الطريق إلى بيتها ووضعته فوق المنضدة وقسمته نصفين بالطول، نصف رأس ونصف جسد وقالت لأحد النصفين:
ـ اذهب إلى بيتك.
وللنصف الأخر:
ـ وأنت أبق معى.
بقى نصف الطفل معها والنصف الأخر ذهب إلى البيت وقال لأمه:
ـ هل رأيت ماذا فعلت بى العجوز؟ وكنت تقولين أنها مجنونة.
لم تجد الأم ما تفعله إلا أن تسلم بالأمر وتتقبل ما حدث. كبر نصف الولد ولم يدر ماذا يمكن أن يعمل وذات يوم، قرر أن يصبح صياداً. وتوجه إلى بحيرة سمك حيث يوجد سمك الانكليس، واصطاد سمكة انكليس كبيرة طويلة لها نفس طوله، قالت له:
ـ من فضلك اتركنى أذهب وستصطادنى مرة أخرى.
ألقى بالسمكة فى المياة ثم ألقى بشبكته وسحبها فعادت وقد امتلأت بسمك الانكليس وذهب إلى السوق وباع السمك وكسب نقوداً كثيرة. وفى اليوم التالى عاد وإصطاد السمكة الكبيرة التى قالت له:
ـ اتركنى أذهب وكل ما تطلبه من أجل خاطرى ستحصل عليه.
ترك السمكة فوراً. وذات يوم ذهب ليصطاد كالعادة ومر أمام قصر الملك وكانت ابنة الملك تطل من الشرفة وشاهدت هذا الشاب بنصف رأس ونصف جسد وساق واحدة وانفجرت فى الضحك. رفع عينيه ونظر إليها وقال: «من أجل خاطر سمكة الانكليس، ترزق ابنة الملك بطفل منى».
بعد قليل حملت الأميرة ولاحظ الأبوان هذا وسألاها:
كيف حدث ذلك؟
فأجابت الفتاة:
ـ أنا لا أدرى، لا أعلم شيئاً عن هذا.
ـ كيف لا تعلمين شيئاً؟ من والد الطفل؟
وبالرغم من كل الأسئلة وبالرغم من وعودهم بمسامحتها إن اعترفت، إلا أن الأميرة ظلت تردد أنها لا تعرف شيئاً. عندئذ بدآ فى إساءة معاملتها ومضايقها وهى لا تدرى ماذا تفعل.
ولدت الأميرة طفلاً ذكراً جميلاً ولكن الملك والملكة كانا يبكيان لشرفهما الضائع والفضيحة التى ستلحق بالقصر الملكى لولادة طفل لا أب له. استدعوا ساحراً حتى يخمن اسم والد الطفل. قال الساحر:
ـ لننتظر حتى يكمل الطفل عاماً.
وعندما أكمل الطفل عاماً قال الساحر:
ـ الآن نجهز مأدبة وندعو إليها السادة والأعيان ونعطى للطفل تفاحة من ذهب وتفاحة من فضة. وسوف يعطى الطفل التفاحة الذهب لأبيه والتفاحة الفضة لجده.
أعلن الملك عن المأدبة ودعى إليها الجميع فى الصالة الكبرى للقصر وعندما جلس السادة فى أماكنهم نادى المرضعة والطفل بين ذراعيها وأعطى له التفاحتين:
ـ هذه لأبيك وهذه لجدك.
طافت المرضعة بالطفل فى الساحة ووقفت أمام الملك وأعطى الطفل للملك التفاحة الفضية. قال الملك:
ـ أعرف أننى جدك للأسف، ولكنى أريد أن أعرف من هو أبوك؟
طاف الطفل وجال ولم يعط التفاحة الذهبية لأحد. استدعى الملك الساحر مرة أخرى وقال له الساحر:
ـ الآن جهز مأدبة عامرة لكل فقراء البلدة.
وأعلن الملك عن إقامة مأدبة ودعى إليها الفقراء. عندما علم المشطور بمأدبة القصر لكل الفقراء قال لأمه:
ـ جهزى لى نصف القميص ونصف السترة وفردة البنطلون وفردة الحذاء ونصف القبعة، فأنا مدعو إلى حفل الملك.
أمتلأت الصالة الملكية بالفقراء، صيادين وشحاذين وقد وضع الملك بها مصاطب فى شكل دائرى، طافت المرضعة مع الطفل ومعه تفاحة الذهب وكانت تقول له:
ـ هيا يا حبيبى أعطها لأبيك.
وما أن رأى الطفل المشطور حتى ابتسم وارتمى بين ذراعيه وقال له:
ـ بابا، خذ هذه التفاحة.
انفجر الفقراء الجالسون فوق المصاطب فى الضحك:
ـ هاهاها، أنظروا من أحبت ابنة الملك.
احتفظ الملك بهدوئه وسط هذا الصخب وقال:
ـ حسناً هذا هو عريس ابنتى.
وتم الزواج فورا. خرج العروسان من الكنيسة وهما يعتقدان أن العربة الملكية ستكون فى انتظارهما. وعلى العكس كان فى انتظارهما برميل كبير فارغ، واجبروا المشطور وزوجته والطفل على الدخول فيه ثم أغلقوه جيداً وقذفوا به فى البحر. كانت هناك عاصفة شديدة وكان البرميل يظهر ويختفى بين أمواج البحر. حتى لم يعد يظهر وظن من فى القصر أنه قد غرق نهائياً. إلا أن البرميل كان طافياً فوق سطح البحر وبداخله الأميرة والمشطور والطفل، والأميرة تكاد تموت من الخوف. قال لها المشطور:
ـ زوجتى، أتريدين أن أجعل البرميل يصل إلى أحد الشواطئ؟
أجابته الأميرة بصوت خافت:
ـ إن كنت تستطيع ذلك أفعله من فضلك.
وفوراً قال المشطور:
ـ من أجل خاطر سمكة الانكليس اللطيفة، يصل البرميل فوراً إلى الشاطئ.
كسر المشطور قاع البرميل وخرج الثلاثة سالمين، وكان وقت تناول الطعام فأمر: من أجل خاطر سمكة الانكليس اللطيفة، تجهز مائدة عامرة بكل ما لذ وطاب من الطعام، وأكل الثلاثة وشربوا وسأل المشطور عروسه:
ـ هل أنت راضية عنى يا عروستى؟
قالت له:
ـ سوف أكون راضية أكثر إذا أصبحت كاملاً، وليس مشطوراً.
قال فى سره: «من أجل خاطر سمكة الانكليس اللطيفة، أصبح كاملاً وأجمل من ذى قبل». وفى التو واللحظة أصبح شاباً فى غاية الجمال، كاملاً وقد أرتدى ملابس سيد عظيمة، وسأل عروسه:
ـ هل أنت سعيدة؟
أجابت:
ـ سوف أكون سعيدة حقاً إذا اصبحنا فى قصر جميل بدلاً من الشاطئ المهجور.
قال فى نفسه: «من أجل خاطر سمكة الانكليس اللطيفة، يصبح لدينا قصر جميل وبه شجرتا تفاح، كل منهما فى ناحية مختلفة، تثمر إحداهما التفاح الذهبى والأخرى التفاح الفضى وأن يمتلئ القصر بالخدم والوصيفات وكل مايلزم القصر». وما أن أنهى أمنيته حتى وجد القصر وبه كل مايلزم. وبعد أيام قليلة أقام المشطور الذى أصبح شاباً كاملاً مأدبة، ودعى إليها ملوك وملكات الجوار وحضر أيضاً والد العروس، وعندما أستقبلهم قال الشاب:
ـ أوصيكم بشىء واحد فقط ألا تلمسوا التفاح الذهبى أو الفضى وإلا سينال من يلمسهما عقاب شديد.
قال الجميع:
ـ اطمئن اطمئن لن نلمسها أبداً.
وبدأ الجميع فى الأكل والشراب وقال الشاب بصوت خافت: « من أجل خاطر سمكة الانكليس اللطيفة، تدخل تفاحة ذهبية فى جيب حماى وتفاحة فضية فى جيبه الأخر».
بعد الغذاء، أصطحب المدعوين فى جولة بالحديقة ووجد تفاحتين ناقصتين، سأل فوراً:
ـ من أخذهما؟
أجاب جميع الملوك:
ـ أنا لا، أنا لا، لم ألمس شيئاً.
قال المشطور:
ـ لقد حذرتكم ألا تلمسوا التفاح، الآن يجب أن أفتش جيوبكم.
وبدأ يفتش ملكاً ملكاً وملكة ملكة ولم يعثر على التفاحتين. ثم جاء دور الملك حماه وفتشه فوجد التفاحتين كل تفاحة فى جيب. قال له:
ـ كما رأيت لم يجرؤ أحد على لمس أى تفاحة وأنت سرقت اثنتين الآن سوف يكون لك شأن معى.
وكان الملك يردد:
ـ ولكنى لا أدرى شيئاً، لا أعلم شيئاً، لا أعرف ماذا حدث لم أخذهما وأقسم على ذلك.
رد المشطور:
ـ تريد أن تقول أنك برئ ولم تأخذ التفاحتين.
رد الملك:
ـ نعم.
قال له المشطور:
ـ إذن كما انك برىء فابنتك كانت بريئة والعدل أن أفعل بك ما فعلت أنت بها.
وفى تلك اللحظة حضرت الأميرة وقالت:
ـ لا يجب أن يقال ذلك أبداً، أن يتألم أبى بسببى! وإذا كان استخدم القسوة معى فإنه أبى على أى حال وأطلب العفو له.
تأثر المشطور وعفى عن الملك، وفرح الملك برؤية ابنته حية وبأنها بريئة واصطحبهم جميعاً إلى القصر وعاشوا هناك سعداء وإن لم يكونوا قد ماتوا فلابد أن يكونوا هناك حتى الآن.
(البندقية)