من بين كل المواقف الغربية من أحداث فلسطين الحالية كان موقف إنجيلا ميركل صادمًا. هذه السيدة الأكثر نزاهة بين السياسيين في العالم، كانت واضحة في دعمها لأمن إسرائيل دون أن توجه إليها أي لوم. كيف سمحت ميركل لنفسها بدعم كيان يتبنى سياسات هتلر العنصرية ويُطبِّق ممارساته في الإبادة الجماعية!
بعد ميركل يأتي موقف جو بايدن، لأن أطروحاته الأخلاقية التي اعتمدها في الانتخابات لم تزل ترن في آذاننا. لنكتشف اليوم أنه كان مجرد تصعيد بلاغي انتخابي في مواجهة ترامب؛ أكثر السياسيين انحطاطًا في تاريخ الولايات المتحدة.
لا يجب أن نفترض افتقاد ميركل أو بايدن للضمير، لكن نفترض أنهما، وكل القيادات الرسمية الغربية يسمحون لضمائرهم بغفوة يبررونها لأنفسهم من خلال الاكتفاء بالقصة الأخيرة المعروضة في أية لحظة تأزم من هذا الصراع التاريخي: تعرض مستوطن للطعن، أو إطلاق صاروخ من غزة، وإن ذهب أحدهم إلى ذكر لماض أبعد قليلاً؛ فإنه يتبنى السردية الإسرائيلية، وهي سردية تتحاشى البداية الأولى، أي لحظة إقامة دولة على أرض شعب آخر بالقوة، كما تتحاشى البدايات الإسرائيلية الأخرى عدوان ١٩٥٦، المجازر المتعددة على أرض فلسطين ولبنان، بل تتخير لحظة بداية عربية: تهديد عربي بإفناء إسرائيل، لم يستطع صاحبه أن ينفذه، أو لحظة بداية عربية، مثل لحظة الحشد العربي ١٩٦٧ التي انتهت بهجوم إسرائيل الكاسح في حرب الأيام الستة، وظلت محمية بالديكتاتورية العربية، إذ ساعدها كبرياء الاستبداد العربي في التعتيم على جرائمها ضد الأسرى!
كل مرحلة من هذا الصراع لديها سرديتها الإسرائيلة المعقولة ظاهريًا، وقد مر هذا الصراع منذ قيام إسرائيل بمرحلتين أساسيتين:
المرحلة الأولى من ١٩٤٨ حتى كامب ديفيد ١٩٧٩، وتقوم السردية على أن إسرائيل دولة صغيرة ديمقراطية وسط محيط عربي صاخب وجيوش كبيرة تخطط لإلقاء الدولة الديمقراطية الوحيدة في البحر!
بعد كامب ديفيد تصدع الإجماع العربي وتصدعت معه السردية الأولى، وكان لابد من سردية ثانية تزامنت مع مولد حماس والفصائل الإسلامية أواخر الثمانينات. وفي هذه السردية تواصلت أكذوبة الدولة الصغيرة الديمقراطية المستهدفة من جماعات إرهابية!
تتيح السردية الإسرائيلية الغفوة المريحة للضمائر الغربية، يدعمهما سيل من القصص الفرعية التي تغرق الجمهور الغربي في ضباب كثيف يحجب أسئلة البداية، والأسئلة الأساسية في أية قصة فرعية.
يطعن فلسطيني مستوطنًا بالسكين في الضفة الغربية، فيصبح هذا خبرًا يتم تكييفه باعتباره اعتداءً إرهابيًا على مدني. ولا توجد صحيفة أو محطة تليفزيونية في الغرب تجرؤ على القول إن وجود هذا المستوطن في أرض محتلة غير شرعي، ولا أن هذا المستوطن مسلح وعلى قوة الاحتياط في جيش الاحتلال. ناهيك عن أن يقول شيئًا عن نظام التجنيد في إسبرطة الجديدة، حيث التجنيد الإجباري للرجال والنساء، والبقاء على قوة الاحتياط حتى الخامسة والخمسين، وما بعدها إذا اقتضت الضرورة!
إسرائيل في الحقيقة هي جيش، ولا مجال للحديث عن مجتمع، وديمقراطيتها تستثني خمس سكانها من الفلسطينيين. وهي بتعريف القانون ليست دولة لأن حدودها غير معلنة بالكامل.
طعن المستوطن خبر في عرف الإعلام الذي يسعى إلى الجديد، وسقوط صاروخ حمساوي دون أضرار خبر، لكن إهانة كرامة الفلسطيني يوميًا على المعابر ليس خبرًا. الحوامل اللائي يلدن على الحواجز وموت الأجنة المتكرر لصعوبة الوصول إلى مستشفى بسبب جيش الاحتلال ليس خبرًا.
لكن القضية الفلسطينية لم تعدم العقول النيرة والضمائر اليقظة من أمثال نعوم تشومسكي، تيموثي ميتشل، والعديد من المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين يصرون على سرد القصة الأصلية بنزاهة: هناك دولة أقيمت على حساب الفلسطينيين عبر تسلل استيطاني وعصابات مسلحة، انتصرت وصار وجودها مشروعًا باعتراف الأمم المتحدة. وإن كان العرب قد رفضوا قرار التقسيم الأممي، فهذا لا يسقط الحق الفلسطيني في أي يوم بعرف ذلك القانون، وقد عادوا وقبلوا به في أوسلو. لكن ضحايا المحرقة لم يكفوا عن حرق الفلسطينيين والتوسع الاستيطاني والتطهير العرقي ولم ينفذوا شيئا من التزامات أوسلو من ١٩٩٣ إلى اليوم.
وظلت المنافذ المتاحة لأصحاب الضمير شديدة الضيق حتى مع ناقد شهير مثل تشومسكي، وقد بات علينا (أعني من يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية من العرب) أن نعمل على مؤازرة نخبة الضمير الغربي بنشر سردياتهم بكل السبل بين جمهور أوسع من الغرب. وعندما يحدث ذلك ستبدأ نهاية هذا النظام العنصري البغيض، لأن الفطرة الإنسانية ستجعل الناخب الغربي يتصرف بما يمليه عليه ضميره، إذا ما تعرف على حقيقة الصراع، ويصبح هو من يملي على السياسي مواقفه.
بات علينا كذلك ألا يصادر أحدنا اجتهاد غيره، حيث يبدو الآن صوت عربي يبدو يائسًا من إمكانيات نجاح المقاومة المسلحة محفزًا النضال السلمي. (لنرتفع فوق خطاب قطعان تُعلف تبنًا تهاجم الفلسطينيين وتمن عليهم بسابق المساعدات العربية).
ذات يوم كتبت في مقالي بصحيفة «القدس العربي» أنتقد ظهور أبو عمَّار رافعًا كلاشينكوف في يده المرتعشة بمرض الشيخوخة ”باركنسون» وتساءلت: أية رسالة يبثها عرفات، ولماذا لا نستثمر حقيقة الضعف الفلسطيني في مواجهة دولة عنصرية مدججة بالسلاح بما فيه النووي؟
كانت هذه هي المرة الأولى التي تصلني فيها ملاحظة من رئيس التحرير عبدالباري عطوان، الذي لم أقابله حتى اللحظة، لكنه نقل لي عبر الصديق الراحل أمجد ناصر مدير التحرير استياءه من تناولي للختيار. كان ذلك بعد نشر مقالي بلا تغيير.
وكانت ملحوظتي تنبع من رغبة في الاهتمام بالصورة التي تخرج عنا، وأن نمنح أنفسنا الفرصة لمقاومة السردية الإسرائيلية التي تدَّعي ضعفها على غير الحقيقة، بينما نحن ضعفاء في الحقيقة، ونساهم مع الصهاينة في رسم صورتنا كمعتدين.
الآن، ليس من الحكمة أن ينفي مقترح نضالي عربي مقترحًا اخر، ومن الظلم للنفس أن يتحمل تيار المسئولية الأخلاقية لمستقبل شعب كامل، بل يعمل على تنفيذ رويته دون مصادرة الرؤى الأخرى. وليس هناك من معلم أفضل من العدو؛ فالدولة النووية الوحيدة في المنطقة تدعي الضعف، وتسمي جيشها المسعور «جيش الدفاع» ولديها دواعشها الذين يريدون إلقاء كل العرب في البحر، ولديها مثقفوها الذين يتحدثون حديثآ إنسانيًا، ولديها كل ألوان الطيف وكل منها لديه رؤية للحل، فلماذا يجب علينا أن نكون صوتًا واحدًا؟