المجاز..ترسانة السلاح غير المكلفة!

«المجاز السياسي» كتاب جديد للمفكر المصري عمَّار علي حسن، صدر في عدد أكتوبر من السلسلة العريقة «عالم المعرفة» التي عاودت الصدور مع مطبوعات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي، بعد فترة من التوقف بفعل وباء كورونا. 

يبدو الكتاب وثيق الصلة بكتاب عمَّار السابق «الخيال السياسي» الذي صدر في السلسلة ذاتها في أكتوبر ٢٠١٧ وأحسبهما إضافة للمكتبة العربية في مجال الاجتماع السياسي، حيث ينبهان على دور الخيال والمجاز في الممارسة السياسية التي يعتبرها البعض مجالاً تحكمه الحتمية اعتمادًا على القوى المادية للأطراف السياسية.

 على مستوى الأداء داخل الكيان السياسي الواحد وعلى مستوى العلاقات بين الدول المختلفة، يشيع فهم خاطئ للعبارة المشهورة «السياسة فن الممكن» التي تُستخدم غالبًا  تسويغًا للخسارة ودفاعًا عما تم التوصل إليه في عملية تفاوض مع طرف آخر.

ويعتقد عمَّار علي حسن أننا لم نتخلف عن الغرب في شئون التقنية فحسب، بل كذلك فيما يخص الخيال السياسي، ويعتبر أن هذا الفقر مسئول على نحو كبير عن تردي الأحوال السياسية. ويعول الكاتب على ثلاث كلمات يمكن أن تكون عصب الكتابين معًا: الإلهام، الإيهام، والإبهمام.

الإلهام محرك الخيال والإيهام والإبهام مجال عمل المجاز الذي يضاعف المكاسب ويقلل من الخسائر بجعل الخيالي يبدو حقيقيًا والتنصل من الالتزامات عبر المراوغات اللفظية.

يتضمن كتاب «المجاز السياسي» مقدمة وستة فصول، هي على التوالي: السياسة والكلام، ما المجاز السياسي؟، الاستعارة، المبالغة، الصورة، والصمت. ينطلق في مقدمته من البلاغة ليصل إلى حضورها في المجتمع وفي الحياة السياسية، حيث تشكل اللغة واسطة التفكير والتواصل في تنوعها بين الصريح والضمني، والجلي والغامض، والمسهب والمختزل، والبائن والمضمر، والمنطوق والصامت، وما هو كلمات وما هو صور، والمتوسل بالعبارة والمتخفي خلف الإشارة.

 المجاز في أبسط تعريفاته  “استعمال اللفظ في غير ما وضع له أصلا، أي نقله من دلالاته المعجمية الأصلية أو الوضعية أو الحقيقية إلى دلالة مجازية أو اصطلاحية جديدة» وحسب عبدالقاهر الجرجاني «إذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا». 

لماذا نسعى إلى مجاوزة المعنى الأصلي؟  ليس الهدف الحلية أو الزينة بالتأكيد، لكنه سعي إلى “سحر البيان” الذي يقود بدوره  إلى جيشان المشاعر، بما يؤثر على الاستجابات. 

وينقل الكاتب عن سلامة موسى قوله «كان الأقدمون يقصدون من البلاغة أنها فن لمخاطبة العواطف ولكننا يجب أن نزيد على هذه الغاية غاية أخرى وهي أن تكون البلاغة علما يراد به مخاطبة العقل». ربما لا نتفق مع عمَّار وسلامة موسى  في ذلك الفصل بين الوظيفة المعرفية والوظيفة الجمالية للبلاغة، بينما يصح الإقرار بأن البلاغة لا يمكن أن تنحصر في سجنها الحريري «الأدب». وهذا ما يعود الكاتب إلى التأكيد عليه؛ فالمجاز منساب في تفاصيل حياتنا بشكل ظاهر للعيان، حيث توجد الاستعارات والتشبيهات والكنايات في الحوارات اليومية التي تجري على ألسنة الناس في الشوارع والأسواق والمكاتب والمصانع والورش والحقول والبيوت والملاعب، والأمثال التي نضربها، والحكم التي نتعظ بها، والأحكام التي نطلقها، بل صار المجاز يزاحم التفكير العلمي، ويفرض حضوره على القضايا العلمية المطروحة، حين يراد الادعاء بأن إجراءً علميًا ما يستهدف خدمة البشرية، في حين أنه يستهدف تعزيز هيمنة الدولة صاحبة الإجراء.

لم يتمكن العقل بكل ما امتلك من قدرة على التفكير، من تقديم برهان على ذلك الذي نسميه “الحقيقة”، والذي سيظل محل نزاع تستبيح فيه الأطراف المتنازعة استخدام كل الوسائل لإثبات أن ما تقوله وما تريده هو «الحقيقة». وقد كان الربيع العربي من الأحداث التي وضعت هذا النزاع حول الحقيقة موضع اختبار، إذ صارت الحقيقة وصار الصواب محل ادعاء وتجاذب بين إرادات ورغبات متصارعة، وهي في جوهرها مجرد مجازات متناطحة، الأمر الذي يوجب الاهتمام بالمجاز قدر اهتمامنا بما نسميه «الحقيقة».

كل البرامج والخيارات السياسية و ووقائع التفاوض، تتم عبر اللغة، ويحتاج كل طرف إلى المجاز والتعبيرات البلاغية لتسويق أفكاره. كلمات من قبيل: دين، وطنية، عدالة، وغيرها من كلمات لها جذورها في وعينا وتاريخنا العقلي، لكن تحديد ماهيتها في واقع محدد يبدو أمرًا مختلفًا تمامًا. وفي وسط التجاذب بين المتحاربين يتحول المجاز من سلاح في النزاع على الحقيقة، ليصبح هو ذاته محل نزاع. كل طرف يحاول إبطال مجاز الطرف الآخر من خلال تسفيه مقولته وما ورائها من فكرة، عبر اتهامه بأنه «لا يملك إلا الكلام» وأن المطلوب هو الأفعال لا الأقوال. ويمكننا أن نتأمل تاريخ النزاعات السياسية بوصفه تاريخًا لحروب المجاز.

  تختلف المجازات باختلاف الثقافات، كل جماعة بشرية لها نسقها القيمي الخاص وتاريخ استخدامها للغة يخلق شفراتها الخاصة، والجهل بهذا العمق يخلق سوء الفهم عندما تُنقل اللغة إلى سياق ثقافي مختلف. ويضرب عمار علي حسن مثالاً لسوء الفهم  بواقعة سقوط الطائرة المصرية عام ١٩٩٩ وسقوطها في المياه الإقليمية الأمريكية، في تسجيلات الطائرة وجدت عبارة «توكلت على الله» بصوت الطيار المصري جميل البطوطي. تلك العبارة التي يفسرها السياق الثقافي المصري على أنها تبين استعداد لفعل شيء إيجابي ما، فسرها الأمريكان وفق سياقهم الثقافي، بأن الطيار كان مقدما على عمل انتحاري. لقد كان هذا هو التفسير الذي تمسكت به الإدارة الأمريكية، ومن الوارد كذلك ألا يكون إساءة فهم، بل محاولة للتملص من المسئولية بتفسير مغلوط عمدًا!

يعول عمار علي حسن على الاستعارة فهي التي تجعل الخطاب السياسي يحلق إلى آفاق أرحب، لهذا يوليها الغرب اهتمامًا أكاديميًا كبيرًا، كما يبلغ الاستخدام السياسي للاستعارة مدى يتجاوز قواعد البلاغة بوصفها تشبيهًا ناقصًا، لتبلغ حدودًا من الإبهام يخدم غياب حقيقة يراد إخفاؤها. الكثير من التاريخ وصلنا حافلاً بالاستعارات، تضع على عاتق المؤرخ جهدًا استعاريًا لمحاولة تخليص الواقعة مما يكتنف بناءها من مجاز من أجل الاقتراب من الحقيقة. وإلى جانب ذلك فإن التاريخ بذاته موضوع للاستعارة، عندما يتم استدعاء القديم  والتذكير به من أجل دعم رؤية في الحاضر، بما يسفر عنه ذلك من إذكاء العصبيات والنعرات المهلكة، أو تحقيق التماسك عبر تعميق الجذور.

تفيد الاستعارة كذلك في التحايل السياسي. والتراث العربي حافل بأمثلة من النصائح على ألسن الطير والحيوان كما في «كليلة ودمنة» وكما في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي حيث تتزاوج المتعة الفنية مع الوجه التداولي للنص الذي يهدف خدمة غرض أخلاقي وسياسي. وهي سلاح المقموعين والجماعات والطوائف المختلفة مع التيار السياسي العام عبر التاريخ الإسلامي.

لكن التفوق اليوم في استخدام الاستعارة مشهود به للممارسة السياسية، ولقد شنت الولايات المتحدة الحرب ضد العراق مدججة بترسانة من الاستعارات يصفها جورج لايكوف بالاستعارات القاتلة، وفي نهاية الحرب وضع جورج بوش الإبن استعارته للتاريخ: «لقد تخلصنا من متلازمة فيتنام» استدعى هزيمة بلاده ليعلن أن ما حدث في العراق كان نصرًا وثأرًا للذات الوطنية من هزيمة فيتنام.

وقد يجد السياسي نفسه بحاجة إلى المبالغة. المستبدون يميلون إلى هذا الاستخدام المفرط للغة. كلمات رنانة تخاطب العواطف ولا تلقي بالاً للعقول وضرورة إقناعها. مثل هذا الخطاب لا تُكتب له الحياة الطويلة، حيث يختلف عن خطاب سياسي فصيح يعي الأساليب البلاغية من استعارات وكنايات وتوريات، يعرف بدقة متى يُظهر ومتى يُضمر. وينبه الكاتب إلى استخدام الشعر العربي بوصفه موطنًا للمبالغات السياسية التي يستعيرها الاستبداد وتستعيرها الجماعات المتطرفة سواء بسواء، وفي المقابل نرى إهمال التراث البلاغي العربي الحافل بأساليب الحجاج والإقناع. 

ويتوقف الكاتب أمام شكلين من  أشكال المجاز غير اللفظي لكنهما يعودان ليسكنا الكلمات ويساهمان في رسم الصورة الذهنية. أولهما: الصورة الفوتوغرافية والمتلفزة وعبر الوسائط الجديدة. لا يمكن إزاحة الصور من رؤوسنا عندما نفكر بشخص أو معنى. يذكر المؤلف كيف تعدى تساقط الأجساد من برجي التجارة العملاقين كونه حوادث انتحار إجباري من هول النار لتصبح مجازًا يشير إلى تساقط الأمريكيين جميعًا من الثقوب والشروخ التي أصيب بها جسد الليبرالية. وينحاز الكاتب للصورة الفوتوغرافية، باعتبارها كشفًا وشهادة على لحظة ثابتة، نُمعن فيها النظر ونكرر ذهنيًا ما لا يمكن أن يتكرر وجوديًا. 

والصمت هو الشكل الآخر للمجاز غير اللفظي في السياسة. والصمت هو المخترع الثقافي وليس الكلام. وهو نظام تواصلي من أنظمة العلامات أولته البلاغة العربية اهتمامًا كبيرًا، فهو درجة رفيعة من البلاغة تتجاوز أحيانًا بلاغة الكلام. وهناك أنواع من الصمت منها المؤقت الذي يبتغي به المتكلم تهيئة المستمع لاستقبال مضمون رسالته اللفظية بانتباه، وهناك الصمت المطلق بلا حركة أو إشارة، ويراد به احتقار الآخر وإدخال الكمد عليه، وهناك الصمت المصحوب بإشارات جسدية معبرة. وإجمالاً لا يوجد صمت أبيض خال من المعنى.

وفي النهاية يورد عمَّار علي حسن مسردًا بأهم المجازات السياسية التي انتشرت خلال التاريخ من حصان طروادة، إشارة إلى الخديعة، إلى تعظيم  بريطانيا بـ «الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس» ومعاكسها «رجل أوروبا المريض» إشارة للإمبراطورية العثمانية، وليس انتهاءً بـ «مسيرة السلام» التي توحي بوجود مسعى ونوايا طيبة لحل المشكلة الفلسطينية، لكن المسيرة تبدو بلا نهاية!