مصافحة جديدة للأيك الجديد

اللوحة: فرناندو بوتيرو

فيما يلي مقدمة الطبعة الجديدة من الأيك، عن الكتاب، عني وعن القارئ الشريك بعد عشرين عامًا:

هذا كتاب جديد من كل الوجوه.

كان «الأيك» خطوتي الأولى على طريق فرعي امتد وأثمر كتبًا أخرى؛ فبعد مجموعتين قصصيتين ورواية نازعتني نفسي إلى حرية أكثر ورغبة في الخفة واللعب عبَّرت عن نفسها في شكل نصوص تداخلت موضوعاتها وتتشابكت أجناس الكتابة بداخلها تشابك فروع وأغصان الشجر الحر في الأيكة، لكنني لم أدرك وقتها أن «الأيك» سيكون فاتحة طريق، وأن متعة اللعب ستأخدني إلى نصوص مثل «كتاب الغواية» و«غرفة المسافرين».

مالم أدركه وكذلك، أن «الأيك» الذي رسم طريقي في النص المفتوح  سيكون هو نفسه النص المفتوح على حياتي كلها، القابل للإضافة وإعادة الكتابة طول العمر!

صدرت الطبعة الأولى في سلسلة «كتاب الهلال» قبل عشرين عامًا، تغير فيها الواقع، ودفعني إلى كتابة نصوص جديدة، جعلت حجم هذه الطبعة يقترب من ضعف حجم الطبعة الأولى.

ولم تمر تلك الأعوام بلا أثر عليَّ؛ فكان لابد من إجراء بعض التعديلات على نصوص الطبعة الأولى، ولم يكن ذلك سهلا!

اكتشفت أن تأمل الكاتب لكتابه القديم يشبه الوقوف أمام صوره الفوتوغرافية القديمة؛ إذ تختلط المشاعر بين فرحة هشة مصدرها أمل خيالي باستعادة ما مضى، والكثير من الأسى لأن ما مضى بالحقيقة قد مضى، وهناك شعور الحرج من وضع اتخذناه في الصورة أو مظهر غريب كانت عليه ملابسنا أو قصات شعورنا. 

كانت الإشارات إلى حياتي وتفضيلاتي الجمالية مصدر الحرج الذي واجهته في إعادة قراءة «الأيك» وقفت مطولًا أمام فقرات استشعرت فيها ظل نرجسية يأباها الكهل الذي صرت إليه، لكنني انتهيت إلى عدم الاعتداء على الشاب الذي كنته، واخترت أن يكون تدخلي إلى جانبه بالقدر الذي يخدم الخفة والوضوح والدقة.

كنت قد كتبت مازحًا في مقدمة الطبعة الأولى «إنني أتنكر للحقائق كلما تعذر عليَّ الدفاع عنها». وفي المزاح نُخفي مقاصدنا الأكثر جدية. 

كان قصدي من التشكيك في جديتي أن كتابي ـ وأي كتاب ـ  لا يُقدِّم الحقيقة، لكنه يسعى للبحث عنها، وقمة نجاحه أن يقترب من أحد وجوهها. بسطت يدي لقارئ شريك لديه الاستعداد لمرافقتي في رحلة البحث عن المعنى، ولا يمكن لهذه الرحلة أن تكون ممتعة من دون السخرية والخيال. ومثلما استمتعت بحريتي في اللعب لحظة الكتابة، من العدل أن يستمتع القارئ بحسه الفكاهي والخيالي، وأن يستمسك بحريته في موافقتي أو معارضتي أو تطوير الفكرة والانطلاق بها إلى آفاق أبعد.

لم أزل مؤمنًا بأن الكتابة والقراءة عملٌ واحدٌ يتقاسمه الكاتب والقارئ، لكن تلك الرؤية كانت في البداية أقرب إلى الحدس والإشراق القلبي، ثم أدركت مما قرأت للآخرين بعد ذلك أن ما رآه القلب كان سليمًا من وجهة نظر المنطق ونظريات القراءة والتلقي.

الكتاب الذي يتمتع بنعمة النقص، يجد فيه القارئ مساحته الخاصة ويتمتع معه بحريته في فهم الفكرة وإكمالها، وهذا يجعل من الكتاب كتابًا مختلفًا مع كل قارئ، بل إن القارئ الواحد يختلف عن نفسه عندما يعود إلى الكتاب ذاته في قراءة جديدة، حيث لا تتطابق ظروفنا بين قراءة وأخرى، من حيث الراحة البدنية واليقظة والحالة النفسية وظروف مكان وزمان القراءة، وعندما تمرُّ تكون المدة بين قراءتين بالسنوات يكون وعينا قد تغيَّر، وتتغير تبعًا لذلك مشاركتنا في الكتاب الذي نعيد قراءته.

هكذا؛ فإن مَن قرأ الطبعة الأولى من هذا الكتاب سيراه اليوم بعين جديدة، وأما الشباب الذين يرونه للمرة الأولى فأتمنى أن يتعرفوا فيه على أنفسهم، وقد حرصت ما استطعت أن أحافظ لهم على شريكهم؛ الشاب الذي كتب «الأيك» في بداية هذه الألفية ببهجة واندفاع دون حساب العواقب.

وها أنا أبسط يدي لمصافحة قارئ جديد لـ «الأيك الجديد».