بمناسبة بدء مرور خمسين سنة على وفاة عميد الأدب العربي قدم الدكتور عمار علي حسن الروائي والمفكر السياسي محاضرتين عن طه حسين في مقر “المدارس العصرية”، بالتعاون مع جمعية فلسطين الدولية للتنمية، وفي “النادي الأرثوذكسي” تناول فيهما فكره وأدبه من ست زوايا هي المنهج والنص والذات والصورة والموقف والأفق.
وقدم عمار في الندوتين المفكر الفلسطيني المرموق د. أسعد عبد الرحمن، وحضرهما لفيف من التربويين والمثقفين والإعلاميين ونشطاء المجتمع المدني، وجمهور من المهتمين بالأدب والفكر في الأردن. وجاء حديث عمار من واقع كتاب فرغ من تأليفه مؤخرا بعنوان “بصيرة حاضرة .. طه حسين من زوايا ست”، وسيرى النور قريبا.
وفيما يتعلق بالمنهج قال إن طه حسين قد اتبع اقترابا ومنهجا يقوم على “الصرامة العلمية”، وتقليب كل ظاهرة أو حدث على شتى وجوهه، وبناء استراتيجيات ناجعة في الحجاج، ورفع الالتباس عن قضايا شائكة، وعرض مختلف الآراء حوله، وإعلاء قيمة الشك في سبيل الوصول إلى الحقيقة، معتمدا هنا على “التلاقح” و”التراكم” حيث طور مقاربات الجاحظ وأبي العلاء المعري وابن خلدون باستعارة شكلية عابرة من الفيلسوف الفرنسي ديكارت التي تضمنها كتابه المهم “مقال في المنهج” واستعارة راسخة من دارسي الأدب العربي سواء من علماء ونقاد قدامى أو ما قام به المستشرقون أو ما سمعه في قاعات الدرس في السوربون.
كما اعتمد طه حسين طريقة حوارية، نحن في أشد الحاجة إليه، وهي واضحة في طريقته في التدريس التي قامت على التفاعل والمشاركة والحوار، وظهرت معالمها في تعميق وتعزيز أفكاره هو عبر الاستفادة من الانتقادات التي وجهت إليه، مثلما جرى مع كتابه عن “ابي العلاء المعري”، وهو عبارة عن أطروحته للدكتوراه، إذ أنصت الرجل إلى ما وجه إليه من انتقاد، وأخذها في الحسبان وهو يؤلف كتابا آخر عن أبي العلاء.
وأكد أن منهج طه حسين قد قام على عدة خصائص هي الحوارية والتعدد، والشك والتثبت، والإفاضة والإحاطة، وتعدد زوايا الرؤية والاهتمام، والتمييز في الدرس بين العلم والدين. هذه السمات هي التي جعلت لمنهجه أثرا يختلف عليه الناس، لكن لا يمكن لمنصف أن ينكر ما جاد به من إيجابيات على التفكير والتدريس والبحث في العالم العربي.
أما الزاوية الثانية وهي النص فتحدث عمار علي حسن عن أسلوب طه حسين ولغته الشفاهية التي اعتمدت على آليات التخيل والاسترجاع والتكرار وحضور الموسيقى، وما قام به من تجديد اللغة العربية حجاجيا، وتطويرها بلاغيا، بعد أن كانت الكتابة الأدبية قبله تعتمد على السجع، والكلمات ذات الجرس الصاخب، التي تلفت الانتباه لذاتها، ولا تصل إلى المعنى من أقرب طريق.
وقال عمار غن نص طه كان شفاهيا، لأنه ابن الإملاء، وهو نص بكر إذ كان لا يراجعه، ونص مميز يدل على صاحبه بلا عناء ولا عنت، وإيقاعي تحضر فيه الموسيقى، وهو نص تكراري متنوع حافل بالتناص، ويسعى إلى أداء وظيفة، أو ينهض بالمهمة أو الرسالة التي كان يحملها طه حسين على عاتقه.
وعز الزاوية الثالثة وهي الذات قال عمار إنه رغم رحيل طه حسين عن دنيانا منذ نصف قرن تقريبا فهو لا يزال يقدم لنا نموذجا للمثقف المتكامل، فهو باحث وأديب وناقد ومؤرخ وعالم اجتماع ومترجم وصحفي وسياسي، ارتقى مع توالي إنتاجه ورسوخه، ليصبح مفكرا، بل هناك من يراه فيلسوفا. في الوقت نفسه فهو صاحب الوجوه المتعددة، إذ أنه الأزهري والمدني، والريفي والمديني، وابن الحضارة الشرقية المتحاور بوعي واستقلال مع الحضارة الغربية، يبحث عن الحكمة أنّي وجدها فهو أولى بها. وهذه الثنائيات لا تزال محل أخذ ورد في الثقافة العربية المعاصرة، يضاف إليها بالطبع تلك المقابلة بين البادية والحضر، والتي مثلت عصب المشروع الفكري للعراقي علي الوردي، على سبيل المثال لا الحصر.
واعتبر عمار أنه ليس من قبيل المبالغة أن يقال إن طه حسين كان بمنزلة “بيان النهضة” لمصر الحديثة رغم أن هناك من سبقوه على هذا الدرب، مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده، موضحا أن كل من هؤلاء قد أمسك بطرف، الأول في تبصيرنا بما آلت إليه الحضارة الغربية، بعد طول انقطاع عنها. والثاني في تأسيس تعليم حديث في كنف والي مصر صاحب المشروع البارز محمد على باشا. والثالث في الإصلاح الديني، الذي سبقه إليه بخطوات لا يمكن نكراها الشيخ حسن العطار.
أما طه حسين، من وجهة نظر عمار، فقد أمسك بيده هذه الأطراف الثلاثة، وزاد عليها في طرح تصور للإصلاح الاجتماعي، وخاض كل المعارك التي فرضت عليه في سبيل بلوغ أهدافه، وكان قلمه مشرعا دوما بين نار وغبار، ما إن يخمد، حتى يثور من جديد.
وقال عمار إنه استخلص “ذات” طه حسين من كتاباته وكتابات الآخرين عنه، و”يمكن من خلالها أن نراه يقول عن نفسه أنا الكاتب الحر، ابن عصره، المنذور لمهمة عظيمة، الذي أكتب للناس لكن لا أتملقهم، وأنا نسيج وحده، المعتد بنفسه، رابط الجأش، المتمرد، والمجادل العنيف، الباحث عن المختلف. وأنا أيضا المعترف بأخطائي، المتشائم الذي يسقط في يأس أحيانا، والمغبون من كثيرين.
وعن الزاوية الرابعة المتعلقة بصورة طه حسين قال عمار إن الرجل يظل، بعد مرور ما يقرب من نصف قرن على وفاته، صاحب مكانة رفيعة وهيبة لا يبليها الزمن، بل يبدو أسطورة ذاتية، في نظر محبين ومنصفين له، رغم الانتقادات التي وجهت إليه، سواء من شباب تسرعوا في تقييم مشروعه، أو قرأوه مبتسرا، أو من خصوم سياسيين، لاسيما من بين صفوف أتباع التنظيمات والجماعات التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها، فهؤلاء لا يزالون يرون في كتاباته خطرا على أفكارهم، فيطلقون الشائعات حوله شخصه، ويشككون في انتمائه للحضارة العربية ـ الإسلامية، وينسبون إليه ما لم يقله، ويعرضون آراءه منقوصة ومنبتة الصلة بسياقها، بما يسيء إليه، أو يبذلون جهدا مضنيا في سبيل التعمية عليها، حتى لا تبقى مؤثرة في الأجيال الراهنة والقادمة. وقد شاركهم بعض الشيوعيين في وقت من الأوقات، ولأسباب مغايرة، هذا الافتئات على الرجل، وإن كان من بينهم الذين عرفوا قدره، وأنصفوه.
واستطرد عمار أن لطه حسين عدة صور هي: قاهر الظلام، والتلميذ النجيب، والأستاذ البارع، وصاحب المكانة الرفيعة، والمجدد، والمتحايل، والذي صار أسطورة، والمواطن العالمي. مبينا أنه في الوقت ذاته هناك محاولات متعددة لخدش هذه الصورة، عبر رميه باتهامات كثيرة، ومحاولات أخرى لتقييمها، كي توضع في المكان الطبيعي المستحق، دون تهوين ولا تهويل. فنحن، وبعد سيل من الكتب يتسارع تارة، ويتباطأ أطوارا، حول طه حسين، في حاجة إلى دراسة موضوعية منصفة، لفكر الرجل وأدبه، وأظن أن هذا لا يغضبه، وهو من دعا إلى التحقق والإنصاف على قدر الاستطاعة.
أما عن موقف طه حسين، والذي يمثل الزاوية الخامسة، فقد تحدث عمار عن أن عميد الأدب العربي قد جمع بين التفكير والتعبير والتنظير والتدبير، فصار مفكرا عمليا ومثقفا منتميا، إثر خوضه تجربة حزبية، وأخرى تنفيذية حين تولى وزارة المعارف، وثالثة إدارية حين صار عميدا لكلية الآداب ـ جامعة القاهرة، وحين أنشأ وأدار جامعة الإسكندرية، وكانت له تجربة مهمة في المعهد العالي للدراسات العربية، لجامعة الدول العربية.
كما جمع طه كذلك بين موقفين في طرح أفكاره، الأول كان سافرا متسما بالعناد، ورأيناه في معاركه ضد المنفلوطي حول اللغة، ومحمد حسين هيكل حول الفكر، وجورجي زيدان حول التاريخ. أما الثاني فكان متحايلا، حين غيَّر بعض الآراء التي وردت في كتابه “في الشعر الجاهلي” وأعاد طباعته تحت عنوان “في الأدب الجاهلي”، وحاول إخفاء يساريته الفكرية، وليست العملية، في كتابه “المعذبون في الأرض” كي يمر الكتاب تحت أعين المتربصين بالأفكار الاشتراكية وقتها، وفعل الأمر نفسه في كتابه “الشيخان” حين أوحى إلى أن ما يرد فيه إن لم يكن معبرا عن الحقيقة التاريخية، فلا ضير في هذا، نتيجة المكاسب التي تترتب على رفع صورة الشيخين، أبي بكر وعمر، في أعين الناس، وإعلاء مناقبهما، ثم اتخذ موقفا لينا حيال خصوم من أدباء شبان حاولوا، تسرعا أو جهلا وربما طموحا، التقليل من عطائه الأدبي، وحيال أنصار لم يساندوه كما ينبغي، في حياته، أو حتى بعد مماته، حين زادوا في الحديث عن شخصه، وأنقصوا في تناول أعماله المهمة، على مستوى الشكل والمضمون.
لكن موقف طه يمتد إلى قضايا أعمق مثل موقفه من العدالة الاجتماعية، والحرية والديمقراطية، ومناصرة حقوق المرأة، والسلطة والأحزاب السياسية، والعلاقة بين الشرق والغرب، وبين القديم والجديد من الفكر والأدب.
وقال عمار إنه من تدابير طه حسين وأفعاله التي تحمل درسا باقيا للأجيال الحالية والآتية هي القواعد التي أقرها بين الأستاذ وتلاميذه، في العناية بهم، والحدب عليهم، وصقل مواهبهم. وهناك أيضا جهده في التواصل الحضاري، إذ كان أحد الجسور المتينة بين الشرق والغرب، وأعطى مثلا حواريا ناصعا بين أبناء ثقافتين بينهما جذور مشتركة، أو عطاءات متبادلة، لكن هناك دوما من يزكي الصراع بينهما.
أما الزاوية السادسة وهي الأفق فتحدث فيها عما تحقق من مشروع طه حسين، وعما لا يزال ينتظر، ومصيره هو، نصا ومنهجا وموقفا، وهو الرجل الذي كان يخشى “موت الكاتب” بعد رحيله عن الدنيا، أي ضياع منجزه بعد تحلل جسده، ليصير مجرد ذكرى، تستعاد بين حين وآخر، أو لا يلتفت إليها أحد.
وقال إن طه حسين باق لأنه لعب دور المثقف المنتمي أو العضوي، وصار الناس يستدعونه كلما حفزوا أصحاب الاحتياجات الخاصة على النبوغ، واهتمامه بقضايا التعليم، واشتباكه مع قضايا حياتية عديدة، وروعة أسلوبه، وحضور الناس في نصه ومواقفه، وتقاطعه مع تيارات فكرية وسياسية مختلفة، وثراء عطائه، يجعله بصيرة حاضرة بيننا.