فقدت معظم ما كتبته لسنوات في زاوية «هواء طلق» بالقدس العربي لأن الجريدة تحذف عاما من أرشيفها كل عام تخفيفًا للحمولة. هكذا لم تزل الذاكرة الألكترونية أكثر هشاشة من ذاكرة الورق، لكنني عثرت على هذا المقال اليوم على بريدي الألكتروني، وقد نشر في القدس في مايو ٢٠١٣ عقب مقتل جندي بريطاني في لندن على يد متطرفين إفريقيين. وأحسب أن أفكاره لم تعد صالحة لوصف حال الإرهاب والتجارة وحياة اللامساواة العالمية:
هواء طلق:
إلى لي ريغبي
أو من ينوب عنه
عزت القمحاوي
عزيزي لي..
ودعني أناديك بالاسم الذي دللك به زملاؤك في أفغانستان “رينغر” لأن “لي” يثير اللبس في اللغة العربية فهو مجر حرف جر يفيد الملكية.
لا أعرف لمَ أكتب إليك رسالة لن تصلك، فلتكن إذن رسالة إلى من ينوبون عنك. إلى من تركتهم وراءك، رسالة إلى أمك ربما؟!
هناك شيء يدفعني للكتابة، مؤكد ليس الاعتذار؛ فمن قتلك ليس مصريًا مثلي، وإسلامه ليس مؤكدًا مثل إسلامي. اسمه مايكل وهذا يجعله مجرد مسلم مفترض، هو يشترك معي في الانتماء إلى قارة أفريقيًا فحسب، وهذه ليست بالرابطة القوية إلى الحد الذي يجعلني مدانًا.
لنعتبر ما أكتبه هنا خطبة لم أتمكن من الحصول على تأشيرة دخول إلى بريطانيا كي ألقيها على قبرك بين المشيعين، لكن مايكل حصل على التأشيرة والإقامة ليقتلك. لا أقول هذا افتراضًا فقد كنت مدعوًا بصفتي الأدبية في العام الماضي ولم أحصل على التأشيرة. هذه مفارقة تعنيك الآن.
موتك يا رينغر فادح؛ فأنت شاب، وكان من العدل أن تعيش حتى تحظى براتب تقاعدي يحقق لك شيخوخة هادئة بين أحفاد مفترضين. فادح موتك على الرغم من ملابسك العسكرية التي تبدو احتفالية بينما تبدو ملابس الجنود في بلادنا فظة غليظة، فادح موتك على الرغم من أكوام الورود المصلوبة في مكان ذبحك والأخرى التي ووريت الثرى مع جثمانك.
لا تعتبر حديثي عن أناقتك وعن ورودك حسدًا؛ فالموت هو الموت. وأنت لم تستفد شيئًا من بدلتك أو من ذبح الورود على شرف ذبحك. عشت لحظة رعبك تمامًا مثلما يعيشها يوميًا مائة شاب في المتوسط قبل ذبحهم في سورية، ومثلما يعيشها الثوار المصريون الذين يغتالون في الشوارع أو معسكرات الاعتقال.
هل تعرف يا رينغر أن في مصر وسورية واليمن وليبيا وتونس شباب يحلمون بأن يعيشوا سعداء؟ يعشقون ويتلقون الورود في “الفلانتاين داي” ويرحلون عن الدنيا بعد أن يشبعوا منها، ربما يأملون كذلك في باقة ورد أخيرة عند الرحيل.
أرجوك ألا تعتبر عودتي إلى تفصيلة الورود مرة أخرى حسدًا، لكنني أردت أن أحدثك عن بشر مثلك، لا يناصبونك العداء ومثلك يحبون الحياة، لكن من أرسلوك إلى أفغانستان يصرون على حرمانهم منها.
أنت تعرف المستعمرة البريطانية السابقة التي أخذت موقع بلادك وأجبرتكم على السير في فلكها. تعرف لا شك رئيسها أوباما الأقل دكنة من مايكل أديبو والأقل بياضًا من بوش، هو مثل مايكل “مسلم افتراضي” بالنسبة لبعض خصومه وهو مثلي ومثل مايكل إفريقي الأصل، وربما مثلك أيضًا؛ فأحدث الدراسات تقول إن أصل البشرية من إفريقيا، وهكذا فأن ينتمي أحدنا إلى أفريقيا أو الإسلام ليس سببًا لإدانته بالإرهاب.
عندما قامت الثورة المصرية قال أوباما إنه سيعلم الأمريكيين كيف يصيرون مثل الشباب المصري. ثم استدار مباشرة أو ترك الذين يحكمونه يستديرون لتأديب المصريين على ثورتهم. تدخلوا بكل جبروتهم واستماتوا حتى نجحوا في إبعاد أصحاب الثورة المتطلعين إلى الحياة، ووضعوا أصحاب اللحى مكان الديكتاتور العسكري المخلوع.
للأمانة، فإن لحية الحكم في مصر ليست في طول اللحى التي رأيتها في أفغانستان يا رينغر، لكنها مدعومة بأطياف من اللحى بينها ما يبلغ الطول الذي رأيته في أفغانستان، ولك أن تعد المصريين محظوظين على السرقة الأقل خشونة لثورتهم بعكس أشقائهم السوريين الذين وجدوا أنفسهم بين نيران النظام القديم ونيران اللحى الأفغانية في حرب مفتوحة قضى فيها بلا عزاء ولا ورود مائة ألف من أمثالك.
هل سألوك عن رأيك قبل أن يدفعوا بك إلى أفغانستان؟ هل فكرت أنت لماذا تذهب للفصل بين الأفغان؟ لماذا لا نتركهم يأكلون بعضهم البعض؟
أنت صغير يا رينغر وقد لا تعرف أن لحى أفغانستان صناعة غربية في الأصل، فالذين يستغلونك ويستغلونني ويستغلون القاتل الذي يكبرك بعامين لا يمكن أن يحموا أرباح صناعاتهم إلا بصناعة الخوف. هي الصناعة الأولى التي يمولها ببذخ صناع السلاح وسماسرة البورصة وحتى صناع الملابس. على ذكر صناعات الملابس، هل قابلت الضحايا الألف من بنجلاديش الذين سبقوك إلى مملكة السماء؟ هؤلاء ماتوا في انهيار ورش يكدحون فيها ويتقاضون بنسين عن كل قميص ثمنه خمسين دولارًا. وهم نوع من الموتى مسالم جدًا ولا يخيف، استمتع بصحبتهم واستمع إليهم فقد تفهم منهم ما لم تفهمه أنت وقاتلك.