يشرفني أن أستضيف في الأيك هذا المقال لواحد من أصحاب الضمير اليقظ، الإسباني إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا، قسم الدراسات العربية والإسلامية، جامعة أوتونوما بمدريد، نقلا عن صحيفة العربي الجديد.
في العام 2021 أصدر أحد المثقفين الإسبانيين كتابا عنوانه “ما أجمل العيش من دون ثقافة” (الترجمة العربية بقلم حسني مليطات، منشورات التكوين، الكويت، 2023) انتقد فيه مؤلفه، ثيسيار أنطونيو مولينا، “التبلد” والغباء اللذين أصبحا يهيمنان على أجواء الثقافة في أوروبا عامة وإسبانيا تحديدا، حيث بدأ الكثير يعتبرون الكتب والقراءة والمكتبات والاعتناء بالحضارات الكلاسيكية نوعا من الشذوذ أو العبثية العديمة الفائدة بل مضيعة للوقت، وكأن التكنولوجيا الرقمية الحديثة هي الوسيلة الوحيدة لمواجهة تحديات عصرنا المتطور جدا. ويشكو الكاتب من الإهمال الممنهج الذي تعاني منها الثقافة والكتب والآداب والعلوم الإنسانية بعد تخلي حكومات ومؤسسات رسمية عدة عن دعمها والاعتزاز بها.
استذكرت هذا العنوان وأنا أتابع تداعيات النزاع الدائر حاليا في أراضي فلسطين المحتلة فقلت لنفسي إن كثيرا من المواطنين الغربيين في مقدمتهم رؤساؤنا ووزراؤنا ومثقفونا وإعلاميونا و”صنّاع الرأي” لكانوا سيشعرون بسعادة منشيئة لو اختفت القضية الفلسطينية من قائمة القضايا العالمية الرئيسية فأصبحت المسألة شأنا منسيا لا تتذكره سوى كتب التاريخ الرصينة، المعرضة لخطر الزوال لأن الناس لم يعودوا يهتمون بها، على حد قول كاتبنا الإسباني. ونجهل ماذا سيكون موقف الأخير،وقد تولى وزارة الثقافة الإسبانية قبل خمس عشرة سنة، من الأحداث الجارية أليوم في قطاع غزة، ولكنا نحس بأنه ربما، مثل أغلبية رجال الثقافة البارعين في أوروبا اليوم، يميل إلى الاعتقاد بأن “فلسطين” معضلة شائكة ليتنا وجدنا طريقا للتملص منها.
نعم، الحقيقة أن فلسطين شوكة ما زالت جاثمة في حلق الحضارة الغربية التي تعد دولة إسرائيل جزءا من منطومتها الثقافية إذ أنها تمثل في نظر نخبنا الاجتماعية الرقاء والجودة الفكرية والامتياز العقلاني وجميع سمات التفوق الموهوم الذي يتباهى بها مثقفونا بمناسبة أو بدونها. نريد أن نبتلعها ، أي فلسطين، فنهضمها ونفرزها، أو نلفظها فنستريح منها. فالواقع أن مهمة إيجاد المبررات القوية للدفاع عن إسرائيل أصبحت معادلة صعبة، خصوصا بعد تربع اليمين الاستيطاني المتطرف على مقاليد السلطة. ومهما حاول البعض إقناعنا بأن إسرائيل تمثل أسمى درجات الحداثة والعدالة والديمقراطية وهلم جرا في الشرق الأوسط إلا أننا نحس بأن هناك خللا في هذا الاحتجاج، لاسيما وأننا نشتبه في أنها ليست الكيان المثالي الذي تدأب وسائل الإعلام عندنا على التغني بها. وذلك لأن هناك شعبا اسمه الشعب الفلسطيني يأبى أن يتحول إلى قطعة زينة في اللوحة الرومانطيقية الكبيرة التي يحلو للكثير هنا في أوروبا والولايات المتحدة وكندا وغيرها رسمها والترويج لها في مزادات العالم.
الجمهور الغربي مجهل ومخدوع لأنه لا يبالي بالتفكير والتأمل ولا يريد أن يجهد نفسه بالبحث عن الحقائق. ما أجمل العيش ونحن نجلس أمام الحاسوب أو الهاتف المحمول نشاهد أو نسمع تصريحات المسوؤلين الكبار في الاتحاد الأوروبي يتحدثون عن “وقوفنا غير المشروط إلى جانب إسرائيل”، ولا أعرف لماذا هذا الإصرار على دمجنا جميعا في نادي عشاق كيان متغطرس يمارس العنصرية والتمييز ويبرع في الالتفاف على القانون الدولي… وما أروع جلستنا ونحن نستنكر “همجية” مسلحي حركة حماس الذين أخرجوا المستوطنين الكرماء من بيوتهم وقتلوا الشباب في حفل جماعي يقام في الصحراء ثم انقضوا على جنود وضباط “مساكين” لم يؤذوا أحدا، وهكذا دوليك إلى أن نطفئ الجهاز فنخلد إلى نوم رغيد لا نشعر فيه بشيء إلا بحلم قصته أن إسرائيل دولة عصرية حديثة متطورة تراعي حقوق الإنسان وتقر للجميع بحقوق المواطنة والمساواة. ففي اليوم التالي نستيقظ فنرى “الأوباش” يتهجمون على قيم الحداثة والحضارة الأسمى في منطقة الشرق الأوسط… “لماذا هذا الجنون” تساءلت إحدى المعلقات في برنامج تلفزيون؟ “لأنهم يكرهون الديمقراطية والتطور” أجابت أخرى دون يرف لها جفن.
إننا، معشر الذين نأبى أن ننحدر مع نخبنا السياسية والثقافية إلى مستنقعات الاحتيال الفكري والخداع الإنشائي، تعودنا على أوصاف يريدون بها إسكاتنا فإخراجنا من فردوس حداثتهم وقيمهم الراقية وواجباتهم الأخلاقية (آخر صيحتهم أن ندافع عن إسرائيل باعتباره “واجبا أخلاقيا”). على هذا الأساس أصبحوا ينعتوننا بـ”المعادين للسامية” أو “داعمي التخريب والإرهاب”، وذلك لأننا نغض الطرف عن انتهاكات “الجهاديين” الذي يعيثون في الأرض فسادا منذ فجر السبت الموافق ل7 فبراير الحالي. ماذا عسانا أن نفعل: نحن اليوم “مهوسون بالإسلاموية” مثلما كنا قبل عقود من الزمن مفتونون باليسار الفلسطيني وبعدها بالانتفاضيين وقبلهما بالحراك الشعبي الفلسطيني.
إذا كنا نندد بالعنجهية الصهيونية أيام منظمة التحرير فنحن من أنصار ياسر عرفات والأنظمة العروبية المستبدة الواقفة وراءه، وإذا قلنا إن العمليات الفدائية التي جرت في الثمانينات أو التسعينات من القرن الماضي على أيدي منظمات يسارية فلسطينية هي نوع من حق المقاومة الشرعية في وجه الاحتلال والنهب المنظم فإنهم وصمونا بالتبعية للشيوعية الدولية. وإن كنا يهودا لا يروق لنا ما يقترفه يهود آخرون من قتل ونهب واضطهاد بحق الفلسطينيين فإننا خونة تنكرنا لعرقنا وديننا وملتنا. وإذا كنا مسيحيين نتقزز من فظائع الاحتلال الصهيوني فنحن صليبيون نحن إلى محاكم التفتيش وحملات ترحيل اليهود وهكذا دواليك. لا يهمهم موقفنا المعروف عن الحركات الإسلامية المتطرفة وإدانتنا لتأييد الغرب للجماعات الجهادية في أفغانستان في السبعينات وما بعدها بغية إنزال الهزيمة بالاتحاد السوفيني، وإذا ذكرنا القادة الأمريكان والأوروبيين بأنهم سكتوا مرارا على سياسات بعض الدول الإسلامية المتنفذة التي عملت على نشر صورة مشوهة للإسلام فإنهم يردون علينا بمعادلات استراتيجية أكل عليها الدهر وشرب…
إن الارتباك والضياع في المنظومة الإعلامية والثقافية الغربية بلغت مبلغا من التدني حيث بدأ القيمون عليهم يناقضون أنفسهم في مقولاتهم وبراهينهم وتحججاتهم، فتارة يقولون لك إن دولة إسرائيل قوية –لأنها تمتلك الحق و”التفوق الأخلاقي”- وطورا يعتبرونها ضحية عزلى لمجموعة من المسلحين تسللوا إلى ثكناتهم ومعسكراتهم فأسروا المئات منهم.
يوما يدعون أن الفلسطينيين أشهروا على الشعب الإسرائيلي الحرب بلا هوادة وفي اليوم التالي يقولون لك إن إسرائيل “في حالة حرب دائمة” تملئ عليها قصف مدن غزة وبلداتها وإن كانت هناك خسائر جانبية لا يمكن تفاديها. الآن يعترفون لك بأن الفلسطينيين يملكون وسائل بدائية لا تسمح لهم بمواجهة دولة نووية كبرى كإسرائيل وبعد خمس دقائق يهرولون إلى إرسال المعدات والطائرات والصواريخ إلى أحد أكثر الجيوش تدريبا وتجهيزات في العالم، فماذا تريدون منا؟
قبل أسابيع وجدنا مسؤولينا في الاتحاد الأوروبي يتحسرون على انزلاق الحكومة الإسرائيلية نحو الاستيطان المفرط وإخراج الفلسطينيين من بيوتهم دون حق في وقت تلجأ فيه حكومة “اليمين المتطرف” إلى إجراءات قانونية تعسفية للحد من نفوذ القضاء، بيد أنهم اليوم يعودون علينا بالقول بأن “ديمقراطية إسرائيل على خطر” بعد الهجوم المباغت لحركة حماس والمجموعات المتحالفة معها. إني لا أفهم قياداتنا السياسية الضائعة المتمرغة في مستنقعات الرياء والحماقة، لا أفهم هذه القيادة اليمينية الأوروبية التي تنافس اليسار المعتدل على الظفر بلقب “أحسن صديق لإسرائيل” وهم الذين يحتقرون اليهود ويقولون عنهم إنهم كانوا ثقلا كبيرا على أوروبا قبل ترحيلهم. ولا أفهم المسؤولين الإسرائيليين المحتفلين بزعماء اليمين الأوروبيين المترددين في استنكار جرائم النازية بلهجة صريحة لا تدع مجالا للشك. غريب هذا التواطؤ المذهل بين النخبة الصهيونية الراهنة والقادة اليمينيين الأورويين المشتاقين “لأمجاد” الأنظمة الفاشية الأوروبية التي كنا نظنها قد ولت دون رجعة.
إني والحق يقال لم أعد أتفهم هذه الحماقة الغربية ولا أعرف كيف نريد أن يصدقنا العالم ويرى في مواقفنا وسلوكياتنا حكمة ورجاحة وسدادا ونحن غير مؤهلين لأن نصدق أنفسنا. لقد صب البعض جام غضبهم على دول عربية كالسعودية وقطر وتونس وغيرها لأنها لم تندد “بالهجوم الإرهابي” لحماس بل حملت نظام تل أبيب المسؤولية عن دوامة العنف، وكانهم يتناسون أن ثمة أشخاصا في أنحاء أخرى من المعمورة لهم عيون وآذان ومنطق ينظرون ويسمعون ويتفكرون بها. وإن كان جل مواطنينا لا يأبهون بالقراءة والاستماع إلى الرأي والرأي الأخر وسيلة للمعرفة وتكوين رأي مختص بهم يستند إلى الحصافة وموضوعية، وليس من المعقول أن نطالب غيرنا بتجاهل السجل الدموي للآلة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية واعتداءات المستوطنين المستمرة على أرواح وممتلكات الفلسطينيين وكذلك على مقدساتهم الإسلامية (والمسيحية أيضا). إني أسمع تصريحاتهم المنحرفة الرنانة الفارغة وأحس بأنهم لا يعرفون جيدا كيف ولماذا يدافعون عن كيان يضرب بالعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية عرض الحائط. وأكثر من ذلك، أخشى أن يكون مردّ دفاعهم المستميت عن إسرائيل ضربا من “القفز إلى الأمام” تدفعهم إليه ضرورة الواجب الأخلاقي الذي يتباهون به ولا يكادون يعرفون ماهيته.
ختم الكاتب الإسباني المشار إليه في أول المقال إلى أن الثقافة وإن كان الكثيرون يقللون من شأنها إلا أنها المضاد الأكثر فعالية ضد “أخطار الحماقة”. ولكن الثقافة، بمدلولاتها العربية على الأقل، تتطلب الفطنة والحذق وهما يستلزمان بدورهما الاجتهاد والاستعداد لبذل الجهود في سبيل المعرفة، وإلا انحرفنا إلى معنى آخر لمفردة “ثقف” وهو الخل الذي ثقف، أي، “اشتدت حموضته فصار حريفا لاذاعا”. ولا يشرفنا أن نقول هنا والآن إن الغرب المزهو نفسه، الأحمق حتى الثمالة والضياع، تفوح منه منذ زمن ليس بالقريب رائحة الخل الثقيف.
إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا