كم وهمًا ينبغي أن نشتري؟

الانتصار النهائي للذكاء الاصطناعي بين الوهم والحقيقة

عزت القمحاوي

كان مغريًا بالنسبة لي أن أتلقى دعوة لمؤتمر عن الذكاء الاصطناعي والأدب. إغراء مضاعف في الحقيقة، بسبب حبي للناس والمكان الإيطالي، وبسبب اهتمامي بالموضوع، الذي بذلت جهدًا ومنحته وقتًا لفهمه، على خلفية الضجة غير العادية التي صاحبت إطلاق شركة Open AI لتطبيقها شات جي بي تي.

كقاعدة أتحسس عقلي كلما صادفت ضجة مماثلة؛ فكثيرًا ما تخفي الضجة سرقة ما أو مغالطة ما. وضجة شات جي بي تي لا تضاهيها سوى ضجة صامويل هنتنجتون الذي اختتم الألفية الثانية بنظريته «صدام الحضارات» وادعائه بأن الرأسمالية الغربية قد أنجزت انتصارها النهائي الحاسم. ادعاء كانت ولم تزل تكذبه وقائع الحروب المروعة التي صاحبت نظريته ولم تزل محتدمة في أربع من قارات العالم. والليبرالية الغربية طرف في هذه الحروب دون أن يُكتب لها الانتصار في أي منها.

الجميل في المؤتمر الذي تحمست له، أنه لم يُعقد في كلية الهندسة أو في قسم الأدب الإيطالي، بل في قسم اللغة العربية بالجامعة الكاثوليكية. وهذه الدورة هي السابعة لمؤتمر منتظم في انعقاده بحجم كبير وتنظيم منضبط وموضوع جديد كل دورة، ويقف خلفه الدكتور وائل فاروق، وقد تمكن من منح قسم اللغة العربية حضوره المميز بين الأقسام الأخرى  في تلك الجامعة العريقة، وقد كان لافتًا تعاون قيادات الجامعة ورؤساء الأقسام المختلفة التقنية والأدبية.

وائل فاروق

اختيار «الذكاء الاصطناعي والأدب» عنوانًا للدورة السابعة التي أقيمت بين ١٠ و١٢ أبريل كان موفقًا جدًا وسباقًا. وبدا ذلك من الشغف الذي تحدث به كل من حضروا، سواء من يمتلكون رأيًا متحفظًا أو المتحمسين، لكن بدا الانفتاح على ذلك القادم الجديد، سمة مطلوبة ضمن مؤتمر علمي.

لم يكتب وائل فاروق، رئيس المؤتمر، ورقة وإن قدم في افتتاحه وإداراته لبعض الجلسات ومداخلاته ملاحظات ثاقبة أبقاها في مساحة الأسئلة محتفظًا لرئاسة المؤتمر بواجب الاحتضان لكل الأفكار. الملفت أن الكثير من المشاركين يحمل الواحد منهم أكثر من صفة؛ فبينهم الناقد المترجم مثل صبحي حديدي، الشاعر المترجم مثل كاظم جهاد، التشكيلي الناقد والمترجم، مثل عادل السيوي، الشاعر الفيلسوف مثل الإيطالي إيمانويل بوتاتزي غريفوني، الروائي حبيب عبد الرب سروري، والشاعر الروائي نزار كربوط. هذا التعدد منح المشاركات آفاقًا رحبة.

بشارات وتحفظات

جوفانّي جوبِّر عميد كلية الآداب واللغات الأجنبية بالجامعة الكاثوليكية في ميلانو، ألقى محاضرة الافتتاح حول اللغات، والإبداع، وما يمكن أن يقدمه أو لا يقدمه الذكاء الاصطناعي، بينما كانت حماسة الروائي حبيب عبدالرب سروري، وهو في الآن ذاته أستاذ تقنيات حديثة، يُدرِّس علوم الحاسوب بجامعة روان (فرنسا). متحمس لما وصل إليه الذكاء الاصطناعي في مجال اللغويات الذي يعتمد على حصيلة المادة الرقمية في الفضاء الإلكتروني، مشيرًا إلى أن مشكلة اللغة العربية في قلة المتاح منها على الإنترنت بفارق فادح عن اللغات الأوروبية الأساسية التي استطاعت رقمنة أرشيفاتها القديمة، بينما لم يزل التراث العربي جامدًا لا يمكن التعامل معه، لعدم دقة برامج الرقمنة فيما يخص اللغة العربية حتى الآن.

الحماسة المشروطة كانت رؤية الدكتور محسن فريد أستاذ علم البيانات والذكاء الاصطناعي، وصاحب الأبحاث السباقة في مجال الإنسانيات الرقمية. متحدثًا عن استخدام ChatGPT ونماذج اللغة الكبيرة في مجال اللغة العربية، متطرقًا إلى تداعياته الأخلاقية. 

وكمثل التقنيين، كان المترجمون متحفظين بشأن ذكاء الذكاء الاصطناعي في فهم ونقل الاختلافات الثقافية والأمثال والتعبيرات الثقافية الخاصة التي تأتي مضحكة في كثير من الأحيان. سمير جريس، نجلاء والي، ومحمد حقي صوتشين، عرض كل منهم نماذج من الأخطاء التي صادفوها عند محاولة استخدامه في ترجمة نصوص من هذا النوع.

وهناك تجارب لكتابة الشعر، بينها ما اختبره صبحي حديدي في استنساخ شعر الماغوط، وعمرو خفاجي الكاتب الصحفي ومطلق المشاريع الصحفية الناجحة الذي طلب من الذكاء كتابة وصف لمدينته القاهرة وقصيدة حب. وبين النتائج المقبولة والمضحكة، ثمة الكثير الذي يقال فنيًّا عن تدوير اللغة. الأمر يذكِّرنا بإعادة تدوير المياه، إعادة تدوير البلاستيك. ثمة حدود لجودة اللغة والإبداع المعاد تدويرهما. وهذا أمر تكفل به في المؤتمر محمد آيت حنا، الرواذي، المترجم والأستاذ بجامعة محمد الخامس بالمغرب، إذ تساءل عن معنى أصالة العمل الفني في عصر الإنتاج بالذكاء الاصطناعي. وما ماهية الفنان وعن معنى اقتناء عمل لا يتمتع بأي ماديّة، عمل توجد منه عشرات النّسخ المطابقة؟ وهل من معنى للنقد الفني حين يكون المنقود آلة مبرمجة؟

أسئلة الكتابة تشتبك مع كل الفنون وتنطبق عليها. وقد قدَّم  عادل السيوي عرضًا فنيًّا لما صار بوسع الذكاء الاصطناعي تقديمه وبينه بورتريه ذاتي لرمبرنت بأسلوبه. بدا المجهود كبيرًا جدًا استخدمت فيه حاسبات عملاقة لنسخ أسلوب رامبرانت، لكن طبقًا لأسئلة آيت حنا. ماذا نسمي هذا البورتريه؟

هذه الجهود الخارقة لتشغيل الذكاء الاصطناعي تصطدم بقيم الفردية في إنتاج الفن، ومبدأ الفعل الاجتماعي في الفن، فكل فن في جوهره رغبة في التواصل بين بشريين. ويبقى كذلك السؤال الأخلاقي والقانوني: ماذا نُسمي استنساخ أسلوب الفنان قانونيًا؟ وهل الفن محايد لنجعل رامبرانت يرسم من قبره ما تريده الآلة؟

تحفظات السرد والفلسفة

على مستوى السرد، ذهب المشاركون العرب؛ علوية صبح، وعبده وازن، وبسمة الخطيب، وعبير إسبروصالحة عبيد بشكوك أكبر من شكوك المشاركين الإيطاليين الذين غلبت على هوياتهم التخصصات اللغوية والشعرية والفلسفية. ربما كان الوعي بمكاننا من منظومة الثقافة العالمية أدعى للتشكك، لكن ذلك ليس ببعيد عن طبيعة الإبداع ذي الطموح العالي، الذي هو بصمة خاصة بصاحبها كفرد نشأ وتكون في عصر ومجتمع ولحظة تاريخية محددة.

وكانت الفلسفة أكثر تشككًا في جدوى الذكاء الاصطناعي، فيما قدمه الإيطالي إيمانويل بوتاتري غريفوني، والمغربي عبدالسلام بنعبد العالي. توقف إيمانويل أمام التحيزات ومخاطر عدم الشفافية في الذكاء الاصطناعي، والعماء عن الاستعارة في النماذج اللغوية الكبيرة (LLM) والتحيزات التي تنتج عن تصميم تلك النماذج والعيب الخطير، وهو عدم القدرة على التعامل مع أسلوب النفي في النحو.

وانطلقت دراسة المفكر عبدالسلام بنعبد العالي التي قرأها نيابة عنه وائل فاروق لتعذر حضوره، من تجربة الفيلسوف رافائيل إينتوفن الذي تحدى برنامج الذكاء الاصطناعي في اختبار فلسفي أدّاه الطلاب في امتحان البكالوريا. وأكدت التجربة على الفارق الكبير في مدة صياغة الإجابات بين الإنسان والذكاء الاصطناعي. وقد قدم الذكاء الاصطناعي إجابات سريعة وبدون تأمل، على عكس البشر الذين يتمهلون وينسون ويطرحون مزيدًا من الأسئلة. إذ كشفت التجربة عن القدرة على النسيان وعلى الانخراط في التفكير المعقد كصفة مميزة للإنسان لا يمتلكها الذكاء الاصطناعي.

تراب تحت السجادة

على الرغم من تأكيد التقنيين على خصوصيات اللغة العربية التي تعاني نقصًا واضحًا في المحتوى  على الإنترنت إلا أن الحديث عن الذكاء الاصطناعي بدا في الكثير من اللحظات حديثًا عن إنسانية واحدة، لديها ذات الهموم وذات التطلعات. وذات لحظة ردنا الشاعر المترجم الفلسطيني سامر أبو هواش إلى استخدام الإسرائيليين للذكاء الاصطناعي في جرائمهم بغزة، متسائلًا: هل الذكاء الاصطناعي هو المجرم هنا؟ وهل القتل والصمت على القتل مجرد انحراف تكنولوجي؟

بدا السؤال صفعة إيقاظ، تنبهنا إلى نوع من السرقات التي قد تكون كامنة خلف الضجة التي صاحبت إطلاق شات جي بي تي وما تلاه من برامج البحث التوليدي أو الإنشائي. نجحت شركة «أوبن إيه آي» في الاستثمار في المخاوف، وهذا ليس جديدًا؛ فهناك خط إنتاج رابح في هوليوود يقدم طوال الوقت أفلامًا عن نهاية العالم بهذا الشكل أو ذاك، ما الذي يكمن خلف توليد الخوف الهووليودي من مصالح اقتصادية وادعاءات أيديولوجية عن عالم واحد تواجهه مخاطر واحدة؟ و ما الذي يكمن خلف مزاعم الانتصار النهائي للآلة وهزيمة الإنسان؟ أي إنسان نعني؟ هل تتوزع الهزيمة بشكل متوازن على كل البشر؟ هناك الكثير من التراب المخفي تحت هذه السجادة.

  أبسط الأدلة على وهم الإنسانية الواحدة هو حرية الانتقال في مؤتمرات يشترك فيها غربيون وشرقيون لمناقشة قضايا إنسانيتهم المشتركة، وعادة ما يبقى هذا التراب تحت السجادة مراعاة للباقة أو رغبة في عدم إحراج المنظمين بشكل شخصي.  في مؤتمر الجامعة الكاثوليكية، تعذر على مفكر كبير قامة وسنًا مثل عبدالسلام بنعبد العالي الحصول على تأشيرة، وحصل عليها العرب غير القادمين من وجهات أوروبية بمشقة، بينما يستطيع المواطن الأوروبي أن يؤشر بإصبعه على أي مكان في العالم ويعد حقيبته وينطلق إليه دون الحاجة إلى إذن سلطات الجنوب. قد يكون هذا المواطن الأوروبي مهرب مخدرات أو متورطًا في ترويج جنس القاصرات والقاصرين، لكنه يتمتع بحرية انتقال أكبر مما يتمتع بها مفكر أو مبدع عربي.

هذا اللاتوازن يعري كذبة العولمة في مقولتها الأساسية  «حرية الانتقال» ويؤكد تعاظم الهوة، فبينما  كان «الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان» في زمن روديارد كبلنج، كانت حرية الانتقال مكفولة للإنسان، وفي عصر هنتنجتون صار الشرق والغرب يلتقيان بمشقة، لكن لا يتساويان، فما الذي تخشاه الثقافة المنتصرة من المهزومين؟ 

لا ينبغي إبقاء هذه الحقيقة تحت السجادة، بدوافع اللباقة، لأنها تنبهنا إلى أن حجم المغالطة في الانتصار النهائي للذكاء الاصطناعي قد يفوق حجم مغالطة الانتصار النهائي لليبرالية.

صبحي حديدي مقدمًا جلسة الذكاء الاصطناعي مترجمًا والجلوس من اليمين: سمير جريس، محمد صوشين، نجلاء والي.