الطبخة اللامنتهية

بورخيس

وصلت قصة المرأة التي تطبخ أحجارًا لأطفالها إلى نهايتها السعيدة، عندما رآها الخليفة العادل عمر بن الخطاب وأحضر لها دقيقًا لتطبخ شيئًا حقيقيًا يسد جوع الأطفال. ربما كانت هناك قصص مشابهة على مر الزمان بطلاتها نساء يطبخن الأمل لأطفالهن، دون أن يظهر أمير المؤمنين، لكنها تصل إلى نهاية بحصول المرأة على طعام بوسيلة أو بأخرى. وإذا فقدنا ثقتنا بوجود الرحمة في هذا العالم فلربما تنتهي القصة بموت هؤلاء المساكين.

كل الروايات تنتهي، بعد أن يستنفد كتابها قدرتهم على الإرجاء، بينما تبدو «ألف ليلة وليلة» طبخة لانهائية. يتجلى ذلك حتى في العنوان؛ سواء في تسمية الأصل الفارسي «الألف خرافة» أو في التسمية العربية الجديدة «ألف ليلة وليلة» حيث يُمثِّل رقم الألف مجازًا للانهاية.*

 وقد تحقق طموح «اللانهائي» من خلال بنية المتاهة التي تُميِّز الليالي، عما سبقها من الملاحم وما تلاها من الروايات التي تسعى كل منها إلى نهاية ما. صحيح أن الليالي تنتهي بزواج الأختين شهرزاد ودنيا زاد من الملكين الشقيقين، إلا أن الوصول إلى هذا «الخبر» في الليلة الأخيرة شبه مستحيل إلا بالقفز، ودون ذلك فهو التيه في دروب السرد، ومن هذا التيه نشأت أسطورة أو «لعنة الليالي» التي تهدد بالموت القارئ الذي يصل إلى نهايتها.

 ورغم أن عدد من تأثروا بالليالي في الآداب العالمية أكبر من أن يُحصى؛ فليس هناك من استلهم بنية المتاهة وفلسفتها، مثل مارسيل پروست وبورخيس. كلاهما على نحو مختلف عن الآخر، استلهم البنية بفنية عالية.

صنعت شهرزاد متاهة لتختبيء فيها، ولم تمنح شهريار ولا قارئها الخيط الذي منحته أريادني لحبيبها ثيسيوس كي يساعده على الخروج من الكهف كما في الأسطورة اليونانية؛ الخيط الذي استعاره ساراماجو في «كل الأسماء» عندما زوَّد بطله جوزيه بخيط يرشده للخروج من الأرشيف المظلم.

وربما يمنعنا اختلاف الشكل  بين إبداع بورخيس وإبداع پروست من الانتباه إلى التشابه الكبير بينهما في المعنى، وكذلك في علاقة كل منهما بالليالي.

بورخيس، كاتب النصوص القصيرة، واحد من كبار المؤمنين بفلسفة «العود الأبدي» التي وضع أساسها أفلاطون وانتهت إلى أن تاريخ الكون ليس سوى تاريخ رجل واحد يتكرر باستمرار. وقد أدرك المرامي الفلسفية لبنية المتاهة في الليالي، ووجدها مُشيِّد المتاهات الصغيرة تلبي فكرته عن الزمن الدائري، فالتصق بها حتى لتبدو كتاب حياته، ونرى آثارها في متاهاته الزمانية البارزة جدًا في نصوص «الألف» والمكانية في قصص مثل «حديقة الطرق المتشعبة».

لكن المسعى الأهم لرجل الإلهام الذهني كان التقاط الماسات السردية الصغيرة وترصيع تأملاته بها. يعزل حكاية أو موقفًا صغيرًا، ويضعه في مسارات مختلفة تُفضي إلى احتمالات متعددة. لا يقترب من القصص الشهيرة في الليالي بقدر ما يلتقط قصصًا فرعية  لا يتوقف أمامها أحد. كمثال على ذلك قصة تقع في أقل من صفحة** عن قصر مغلق في الأندلس، محظور فتحه. كل ملك جديد يضرب عليه قفلاً إضافيًا، حتى تولى ملك من خارج بيت المملكة، أخذه الفضول وفتحه ليجد في الداخل تماثيل لعرب على ظهور الخيل والجِمال متقلدين سيوفهم. ولم تكن هذه التماثيل سوى نبوءة بفتح المسلمين للأندلس، تسبب خروجها للعلن في تحققها. 

تشترك تلك الأقصوصة الصغيرة مع قصص كبيرة بالليالي في مغزاها النهائي: التحذير من عواقب الفضول وما يسببه من تفسير لنبوءات دمار لم تكن لتتحقق لو ظلت مخفية. لكن القصر كان زاخرًا كذلك بالنفائس والتحف العجيبة، وبينها مرآة يرى الناظر فيها الأقاليم السبعة للأرض. ولم يُفوِّت بورخيس أعجوبة المرآة التي تجلت في جملة واحدة؛ فصارت عجائب المرايا مرتكزًا سرديًا لديه مثلها مثل الأحلام والنمور.

الفهم والولع غير المسبوقين، لم يجعلا بورخيس واحدًا من كبار مستلهمي ألف ليلة فحسب، بل من كبار مفسريها كذلك. ولم يسبقه بمثل هذا الاستلهام العميق، سوى المتأمل الكبير مارسيل پروست، لكن الاختلاف الظاهري بينهما قد يمنعنا من ملاحظة تطابقهما في فهم ألف ليلة واستلهامها. من حيث الشكل بورخيس كاتب أقاصيص وقصائد قصيرة وتأملات فلسفية، وپروست كاتب ملحمة. بورخيس عمد إلى تدوير الزمان والمكان، وپروست مطَّطهما، كأن الفرق بينهما في استلهام الليالي لا يتعدى فرق السرعة التي يدور بها كوكبان حول نجم واحد.

پروست

المستوى الأبسط من تأثر پروست بالليالي نلمسه في إشارات عابرة، عندما يريد أن يصف فخامة أو بذخًا أو غرابة من عالمه ويشبهه بغرابات وبذخ ألف ليلة، لكن استلهامه لبنية التوالد كان الأثر الأهم لألف ليلة على ملحمته «البحث عن الزمن المفقود»*** إذ جعل منها متاهة حديثة يصعب على القارئ الوصول إلى نهايتها مثلها مثل الليالي، لا ينقصها إلا أن تترصد قارئها خرافة الموت إن أكمل قراءتها! 

يساهم في تمويه التماثل بين العملين الكبيرين اختلاف عوالمهما؛ فعالم پروست ضيق، لا يتعدى حيًا في باريس، وبضع قرى ريفية وشاطئية، وقليل من الذكريات عن رحلات سياحية. ليس في حياة الكاتب/الراوي ظروف تشرد مأساوي أو مغامرات كبيرة. يصف أوساطًا أرستقراطية تعيش في عطالة، متفرغة للنميمة والأسرار التافهة، أبطالها رجال تخنقهم الملابس الرسمية، ونساء يرزحن تحت ضغط مشدات الخصور والصدور وثقل المجوهرات وقواعد الإيتكيت. التقاليد الصارمة تحكم الجميع، حتى قُبلة الأم لابنها لها مكان ووقت محددين. 

ذلك الضيق في جغرافيا عالم پروست وسكونيته، يختلفان كليًا عن إيقاع الليالي اللاهث وجغرافيتها الشاسعة التي تشمل كل العالم المعروف في زمانها، من الهند والصين وفارس وبلاد العرب وإفريقيا وشمال المتوسط. لكنه استطاع تعميق التفاصيل في رقعته الصغيرة ليجعل منها متاهة بحجم العالم، مثله مثل فنان صيني يرسم خريطة العالم على حبة أرز.

ومثلما يغفر القارئ لألف ليلة السرعة غير المنطقية في التحولات، يغفر لپروست سكونية عالمه، حيث يعوِّض قارئه عن افتقاد الحركة بتعميق الأحاسيس وتألق الأفكار، وإنعاش الحواس لاستحضار الماضي. لكنه قبل أن يحيي مشاهد طفولته، كان قد بث الحياة في أشيائه الصغيرة بغرفته لحظة  الكتابة. 

الجمل الأولى في مفتتح هذا العمل الكبير تصف أرقه بعد ليلة من القراءة، يحس الظلام حنونًا مريحًا، يسمع أصوات القطارات في البعيد رقيقة فتُسلمه إلى أصوات العصافير في الوادي الممتد عند المحطة النائية التي سيصلها القطار، الاستعداد للعودة الخيالية إلى الوراء قائم في ملمس الوسادة «كنت أضغذط وجنتيَّ برفق على وجنتي الوسادة الجميلتين وكأنهما بامتلائهما وطراوتهما وجنتا طفولتنا».

تساهم لغة پروست في صنع ملامح عالمه الساكن وخلق البنية النهائية المتناغمة لمتاهته الروائية. الجملة بالغة الطول، حتى لتبدو متاهة بذاتها. وما كانت الجملة القصيرة لتتناغم مع عالم پروست الساكن، مثلما لا يمكن للجملة الطويلة أن تتناغم مع عالم الليالي الزاخر بالحركة والتحولات.

لكن اختلاف إيقاع اللغة في العملين لم يمنع التشابه في بنية الزمن الروائي. في «ألف ليلة وليلة» لدينا عدة أزمنة: زمن الراوي في تصاعده الخطي من الليلة الأولى إلى مالا نهاية حيث تجلس شهرزاد كل مساء في انتظار شهريار بعد فض الديوان لتحكي له عن زمن بعيد آخر (سالف العصر والأوان) لكن سالف العصر والأوان الذي تستدعيه الراوية ليس زمنًا واحدًا بل متاهة من الأزمنة؛ فأحيانًا ما يكون زمنًا في المطلق غير محدد العتاقة عن ملك غير موجود في التاريخ الواقعي، وأحيانًا ما يكون عن ملوك نعرف بوجودهم معرفة إيمانية دون أن نعرف متى عاشوا كالنبي سليمان، وأحيانًا ما نتعرف عليه من خلال ذكر خلفاء وملوك وسلاطين تاريخيين، لكنهم يظهرون في الليالي بغير ترتيب، كأن يظهر هارون الرشيد قبل عبدالملك ابن مروان المولود قبله بثلاثة وستين عامًا.

في «البحث عن الزمن المفقود» *** لدينا الزمن الشهرزادي للراوي/ الكاتب المنعزل، ولدينا الزمن الماضي (في سالف الطفولة) الذي قد يتقدم ويتأخر في مراحل عمر الكاتب، وقد يتأخر أكثر ليستدعي كتابًا وفنانين سبقوه إلى الحياة، مثل نيرفال وراسين وشاتوبريان وفيكتور هوغو وإميل زولا وتولستوي. 

ما إن يدخل القارئ متاهة الليالي أو متاهة پروست حتى يجد نفسه عالقًا بداخلها، وكأنه حبة رمل دخلت في محارة أُغلقت عليها وبدأت في بناء لؤلؤة حولها. لا تعرف حبة الرمل ملوحة البحر ثانية بعد أن تخطئ وتدخل المحارة. وبالمثل، لا يعود القارئ يحس عالمه الواقعي، ويصبح عالم الليالي وعالم الزمن المفقود عالمه ويصبح جاهزًا لقبول كل ما يحدث في ذلك العالم دون البحث عن مرجعية من خارجه.

قد تكون متاهة المصائر  لعدد كبير من الشخصيات الصعوبة الأساسية في قراءة «البحث عن الزمن المفقود» وذلك من حسن حظ القارئ؛ فلسنا مجبرين على تجرع ألم انكسارات الرجال وتبدد جمال النساء. البعض يجد صعوبة تتبع تشعبات الحكاية؛ فينفر من العمل، لذلك من الأفضل أن ندخل «البحث عن الزمن المفقود» كما نزور معرضًا فنيًا؛ نستوعب اللوحات واحدة فواحدة، عندها سنكتشف أن رغبة الكاتب المستحيلة في حياة لانهائية، هي التي جعلته يبني هذه المتاهة عبر إعادة تدوير الماضي إلى ملا نهاية، والتأني أمام كل لحظة ماضية وكأنها عمر بكامله. 

هذا الاختباء من الموت هو عين ما أرادته شهرزاد، وهذه ذروة التماثل بين العملين: الاختفاء داخل كتاب لا نهائي من الحكايات المتوالدة.

على أن هناك تشابهًا آخر في طبيعة النصين صنعته المصادفة. نعرف أن پروست استوعب داخل عمله الملحمي  كتاباته الإبداعية والنقدية السابقة وخبرات ترجمته لأعمال كُتَّابه المحبوبين، ولم يعد هناك من يلتفت إلى أي مما كتبه قبل «الزمن المفقود» وكأنها نجم يبتلع النيازك والكواكب بداخله، وهذه هي الطريقة التي نمت بها ألف ليلة التي أخذ رواتها يراكمون الحكايات الجديدة فوق أصلها الصغير  الهندي الفارسي «هزار افسان» الذي لم يعد موجودًا. 

ولأنه كان كثير التردد، ترك پروست في مسوداته الكثير من الكلمات التي يشطبها ويكتب فوقها، ثم يعود إلى تغيير التعديل. وبينما كان يتقدم في الكتابة كان يعود إلى تعديل الأجزاء التي سبق أن نشرها، وبعد كل هذا تدخل الناشرون لوضع بعض العناوين لأجزاء تركها دون عناوين، وهذا يجعله أقرب نص معاصر إلى ألف ليلة من زاوية تعدد الصياغات.****

ولو افترضنا وجود باحثين لديهم ما يكفي من الشغف لكي يعيدوا فحص مخطوطات پروست في المكتبة الوطنية الفرنسية ربما يستطيعون تقديم طبعات من البحث عن الزمن المفقود مختلفة في تفاصيلها، بقدر اختلاف طبعات الليالي عن بعضها البعض.

ـــــــــــــ

إشارات:

*عدد الألف، كناية عن اللانهاية، وقد زادت الليالي بليلة فوق الألف لتأكيد هذا المعنى، ولابد أن هذا هو أصل الخرافة التي تؤكد موت من يكمل الليالي.

  • *حكايات من الأندلس، الليلة ٢٧١، طبعة بولاق.
  • * صدرت المجلدات الثالثة الأولى في منشورات وزارة الثقافة السورية بين عامي ١٩٧٧ ـ ١٩٨٨، في ترجمة إلياس بديوي ثم صدرت المجلدات الخمس في دار شرقيات بالقاهرة بين عامي ١٩٩٤ و١٩٩٧ بالتعاون مع البعثة الفرنسية للأبحاث، وحال الموت دون إلياس بديوي وبين إكمالها، فتولى جمال شحيد ترجمة المجلدين الأخيرين وصدرا عن الدار نفسها ٣٠٠٣، ٢٠٠٥، ثم صدرت الرواية كاملة في طبعة دار الجمل عام ٢٠١٩ بتقديم وتدقيق جديد لجمال شحيد. والمقتبسات من الترجمة العربية للعمل.
  • ***  في مقدمته للزمن المفقود يروي جان إيف تادييه، كيف أن البنية لم تكن واضحة، وكيف تلاحقت التعديلات في الطبعات المختلفة، استنادًا إلى متاهة التغييرات التي يتضمنها مخطوط پروست.