كل رمضان والإنسانية بألف خير، وأتمنى أن يكون المسلمون جزءًا من صناعة الخير في رمضان، بالتفكير في تغيير من صورته التي استقرت كمتلازمة «للتدين والاستهلاك». لقد تحول رمضان من شهر للتدين إلى ظاهرة تقع في صلب الاجتماع السياسي، ويكمن داخلها الكثير من طبائع الاستبداد وآلياته.
مسئولون عن تنفيذ القانون يخلطون بين أشخاصهم وبين الدولة، كما يخلطون بين دنيانا وبين الدين، فيشنون الحملات على مفطري رمضان، بالرغم من عدم وجود قانون يجيز لهم ذلك، بل للإسلام نفسه الذي أباح إفطار المرضى والمسافرين والحائضات والنفساوات، وغير المسلمين بالطبع. لكن هؤلاء الطغاة الصغار ليسوا ستثناءً.
إذا أخذنا على سبيل المثال كتلة الساهرين في المساجد لصلاة القيام، الذين يهاجرون إلى مساجد بعينها، يحملون شربهم وطعامهم في أيديهم. في الظاهر نحن بصدد كتلة متجانسة رابطها هو الإسلام، دون أن يدرك الواحد منهم أن ما يربطه بالآخرين في المسجد المزدحم هو طقس من طقوس العقيدة لا العقيدة نفسها؛ بوصفها دعوة لحسن الخلق والعدالة وعدم الإيذاء.
أول ما يرتكبه هؤلاء بحق المجتمع هو الفوضى التي يتركون بها سياراتهم أمام المساجد، حتى ليتعذر مرور الإسعاف أو المطافي. لا يفكر أحد منهم في مسئوليته عن موت مريض أو محترق في منطقة المسجد لم تجد عربة الإسعاف طريقًا لإنقاذه.
هذه الكتلة قررت بوعي أو دون وعي فصل التدين عن الإنسانية، لكنها ـ مثل الضباط المتدينين ـ في مأزق مع الإسلام نفسه، الذي يأمر بإماطة الأذى عن الطريق.
لقد قرروا الانحياز للطقس على حساب العقيدة، وهم منحازون في الوقت ذاته إلى إسلام رومانسي يجمع مسلمين مثاليين، هم المسلمون المجهولون، لذلك يحرص المصلون على التوجه إلى المساجد البعيدة، بحثًا عن صحبة المسلم الصالح، والمسلم الصالح هو المسلم المجهول، لأن سوابق النزاع على موقف للسيارة أو على دفع تكلفة المنافع المشتركة للعمارة، تمنح الجار صورة «المسلم السيء» لدى جاره!
على أن شهرة المساجد زائلة مثل الموضة، تتغير من رمضان إلى آخر، باستثناءات قليلة لعدد من المساجد الجامعة. وتتحكم في شهرة المسجد (بعد شرط المسافة الكبيرة) عوامل مختلفة، منها جودة التكييف والفرش ودورات المياه، وسهولة الوصول إليه. وقبل كل هذا بالطبع الإمام الماهر في البكاء.
كتلة الجمهور المؤمن التي لا تكترث لراحة أو أمان غيرها، ستجد بانتظارها إمامًا مسلحًا بمكبر للصوت. لا يعبأ بالمرضى حول المسجد، ولا بمن يعملون في الليل، ولا بالمنكوبين في محنة الامتحانات.
لم تنطلق رسالة الإسلام من ميكروفون، ولم يكن البكاء ركنًا من أركان الإسلام. والشعور المنطقي لمن يمارس العبادة هو الرضا، بل والسعادة، إلا أن بكاء الخِشية معروف منذ فجر الإسلام، لكنه كان بكاءً فرديًا أو شبه فردي، يقتصر على إمام يختنق بالعبرة وحيدًا أو بين من يؤمهم في لحظة قراءة آية من آيات الغذاب في هدوء المسجد. حضور الميكروفون جعل الأمر مختلفًا. الوعي بوجود الآلة المكبرة للصوت جعل الأمر استعراضًا، أي عرضًا فنيًا في البكاء والإبكاء مستمر على مدار الوقت.
ليست هناك فائدة يجنيها الإسلام من ضوضاء تخرج مع صدى الصوت مبهمة يستحيل تمييز كلمة واحدة منها، ثم إن هذه الضجة تتضافر مع ضوضاء المساجد الأخرى، فينسد الأفق بنهنهات مثيرة للكآبة، تمثل اعتداءً صريحًا على حياة الناس ومعايشهم.
ومثلما يزيل الديكتاتور الحد بين شخصه والدولة؛ فيعتبر مناقشة أفكاره خيانة وطنية، تزيل الكتلة الإيمانية الرمضانية الحاجز بين أفرادها وبين الدين وتعتبر كل نقاش لسلوكياتهم العدوانية ضد راحة وسلامة الآخرين عدوانًا على الدين.
وهذه الكتلة هي المصدر الرئيسي للاستبداد.